الابتزاز الإلكتروني في مصر: ضوابط حكم الجنايات المستأنفة لحماية الحقوق
الابتزاز الإلكتروني

الابتزاز الإلكتروني: ضوابط صارمة لحماية الحقوق وضمان العدالة في حكم “الجنايات المستأنفة”
في ظل التطور المتسارع للتكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت جرائم الابتزاز الإلكتروني من القضايا التي تشغل بال المجتمعات والقضاء على حد سواء. هذه الجرائم، التي تتسم بسهولة ارتكابها وخطورة تأثيرها على سمعة الأفراد وكرامتهم، تتطلب توازنًا دقيقًا بين حماية الضحايا وضمان عدم إساءة استخدام الاتهامات كأداة للتشهير أو الإضرار بالأبرياء. في هذا السياق، جاء حكم محكمة “الجنايات المستأنفة” في مصر ليضع معايير صارمة للتعامل مع قضايا الابتزاز الإلكتروني، مؤكدًا على مبدأ أن “الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال”. في هذا المقال، نستعرض تفاصيل هذا الحكم المهم، ونناقش أهميته في وضع ضوابط قانونية تحمي حقوق الأفراد، مع تقديم تحليل شامل للقضية ودروسها المستفادة.
خلفية القضية: اتهامات خطيرة ومسار التحقيق
تدور أحداث القضية حول شاب يُدعى “ع. ش”، واجه اتهامات خطيرة من النيابة العامة تضمنت أربع جرائم رئيسية:
- التهديد بإفشاء أمور مخدشة بالشرف: وفقًا لأمر الإحالة، هدد المتهم طفلة تُدعى “ل. م” عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل واتساب وفايبر بنشر مواد تُخدش الشرف، مصحوبًا بطلبات للقاء أو دفع مبالغ مالية.
- إزعاج المجني عليها عبر وسائل الاتصال: اتهم بإساءة استخدام وسائل الاتصال لمضايقة الطفلة.
- التحرش الجنسي: زُعم أن المتهم طلب من المجني عليها إرسال فيديوهات عارية، مع إرسال رسائل تنتهك خصوصيتها.
- الاعتداء على القيم الأسرية وانتهاك الحياة الخاصة: اتهم باستخدام حساب على الشبكة المعلوماتية لارتكاب هذه الجرائم.
شهادة المجني عليها
قدمت المجني عليها شهادة مفصلة، ذكرت فيها أن المتهم تقدم لخطبتها سابقًا وتم رفضه بسبب صغر سنها. وأضافت أنه كان يتحرش بها باستمرار نظرًا لقرب محله التجاري من منزلها. وادعت أن المتهم طلب منها تصوير نفسها بدون ملابس، وأنها استجابت له تحت تهديد الخطف، وأرسلت فيديو عبر هاتف والدتها. لاحقًا، زعمت أنه هددها بنشر الفيديو إذا لم تستجب لمطالبه، وأن الفيديو انتشر في بلدتهم. وأكدت أنها حذفت جميع المحادثات مع المتهم خوفًا من أهلها، وقدمت ذاكرة إلكترونية تحتوي على الفيديو المذكور.
تحريات الشرطة وتقرير الفحص الفني
أكد الملازم أول “ع. ح” في تحرياته صحة الواقعة كما وردت في شهادة المجني عليها، مشيرًا إلى أن المتهم أرسل الفيديو لبعض الأشخاص في البلدة، دون التأكد من نشره على وسائل التواصل الاجتماعي. من جانبها، كشفت إدارة المساعدات الفنية أن هاتف والدة المجني عليها يحتوي على تسجيلين صوتيين:
- الأول: شخص يُدعى “حشمت” يطالب المجني عليها بمبلغ 100 ألف جنيه مقابل عدم نشر الفيديو.
- الثاني: حوار يُظهر المجني عليها تشتكي من نشر الفيديو، بينما ينفي الطرف الآخر (المزعوم أن يكون المتهم) هذا الفعل.
موقف المتهم
اعتصم المتهم بالإنكار طوال مراحل التحقيق والمحاكمة، ودفع دفاعه ببطلان الفحص الفني، وانتفاء صلته بالواقعة، وبطلان التحريات لصدورها من غير مختص.
الحكم الأولي: السجن 10 سنوات
في جلسة محكمة الجنايات الأولى، حضر المتهم وكرر إنكاره، بينما مثلت المجني عليها بوكيل قانوني وطالبت بتعويض مدني مؤقت بقيمة 40 ألف جنيه. ورغم دفوع الدفاع، قضت المحكمة بمعاقبة المتهم بالسجن لمدة 10 سنوات، مع مصادرة المضبوطات وإحالة الدعوى المدنية إلى المحكمة المدنية المختصة.
الاستئناف: نقطة تحول قانونية
لم يرتضِ المتهم الحكم، فقدم استئنافًا، وفي جلسة الاستئناف، جدد دفاعه الدفوع السابقة، مضيفًا:
- عدم اختصاص محكمة الجنايات نوعيًا، وطلب إحالة القضية إلى المحكمة الاقتصادية.
- بطلان القبض والتفتيش لعدم وجود إذن من النيابة.
- عدم معقولية الواقعة، وأن الهاتف المفحوص ليس ملك المتهم.
- أن التحريات جاءت مجهلة وغير موثوقة.
رد المحكمة على عدم الاختصاص
في حيثياتها، أوضحت المحكمة أن الدفع بعدم الاختصاص مردود، مستندة إلى المادة 214 من قانون الإجراءات الجنائية، التي تنص على أن الجرائم المرتبطة تُنظر أمام المحكمة الأعلى درجة. وأكدت أن جريمة التهديد بإفشاء أمور مخدشة بالشرف (الأشد) تختص بها محكمة الجنايات العادية، بينما جرائم مثل الإزعاج أو الاعتداء على القيم الأسرية تقع ضمن اختصاص المحكمة الاقتصادية. وبالتالي، انعقد الاختصاص بشكل صحيح لمحكمة الجنايات، ورفضت المحكمة هذا الدفع.
حيثيات البراءة: ضوابط صارمة للإثبات
في موضوع الاستئناف، وضعت المحكمة معايير صارمة للإثبات في قضايا الابتزاز الإلكتروني، مؤكدة أن العبرة في الإثبات الجنائي هي باقتناع المحكمة واطمئنانها للأدلة. واستعرضت المحكمة الأدلة المقدمة بعين فاحصة، لتخلص إلى ما يلي:
- غياب الدليل اليقيني: خلت الأوراق من دليل قاطع يربط المتهم بالأفعال المنسوبة إليه. أقوال المجني عليها وحدها لا تكفي لإدانته، خاصة أنها حذفت جميع المحادثات المزعومة، مما يثير الشك في مصداقيتها.
- الفيديو المقدم: لم يثبت أن الفيديو أُرسل من هاتف المجني عليها أو والدتها إلى المتهم عبر تطبيقات التواصل، كما أن تقديمه على ذاكرة إلكترونية مستقلة يثير التساؤلات حول مصدره.
- التحريات المجهلة: اعتبرت المحكمة التحريات غير موثوقة لأنها جاءت مجهلة، دون أسباب فنية تدعمها، ولم يتم ضبط الفيديو المنتشر أو تقديم شهود يؤكدون تداوله.
- التسجيلات الصوتية: المقطع الأول يشير إلى شخص آخر غير المتهم، بينما المقطع الثاني يظهر إنكار الطرف الآخر للواقعة، مما يضعف قيمته كدليل.
- مبدأ الشك: استندت المحكمة إلى القاعدة الأصولية “الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال”، مشيرة إلى أن الأدلة اختلطت بالشكوك، مما يدعو إلى التشكيك في صحة الاتهامات وحدوث الواقعة كما وصفتها المجني عليها.
بناءً على ذلك، ألغت المحكمة الحكم الأولي بالسجن 10 سنوات، وقضت ببراءة المتهم من جميع التهم المنسوبة إليه، مستندة إلى المادتين 304/1 و417/3 من قانون الإجراءات الجنائية.
أهمية الحكم وضوابطه القانونية
يُعد هذا الحكم علامة فارقة في التعامل مع قضايا الابتزاز الإلكتروني، حيث وضع ضوابط صارمة للإثبات تحمي الأفراد من الاتهامات الكيدية. من أبرز النقاط التي أكدت عليها المحكمة:
- ضرورة الأدلة اليقينية: لا يمكن الاعتماد على أقوال المجني عليه وحدها دون أدلة مادية أو تقنية تثبت الواقعة.
- تقييم التحريات بعناية: يجب أن تكون التحريات موثقة ومستندة إلى أدلة فنية، وإلا تُعتبر غير كافية.
- حماية خصوصية الأفراد: أكدت المحكمة على أهمية حماية سمعة الأفراد من الاتهامات التي قد تُستخدم كسلاح للتشهير.
- مبدأ الشك يفسر لصالح المتهم: إذا اختلطت الأدلة بالشكوك، يتعين القضاء بالبراءة لضمان العدالة.
دروس مستفادة للأفراد والمجتمع
- الحذر في التعامل عبر الإنترنت: يجب على الأفراد، خاصة القاصرين، توخي الحذر عند استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والامتناع عن مشاركة محتوى خاص قد يُستخدم ضدهم.
- توثيق الأدلة: في حال وقوع جريمة إلكترونية، ينبغي الاحتفاظ بجميع المحادثات والرسائل كدليل قانوني، بدلاً من حذفها.
- اللجوء إلى الجهات الرسمية: يُنصح بالإبلاغ عن أي تهديد أو ابتزاز إلكتروني لدى الجهات الأمنية، مثل إدارة مكافحة جرائم الحاسبات وشبكات المعلومات بوزارة الداخلية المصرية.
- التوعية القانونية: هناك حاجة لزيادة الوعي بقوانين الجرائم الإلكترونية، مثل قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، الذي ينظم هذه القضايا.
كيف تحمي نفسك من الابتزاز الإلكتروني؟
للوقاية من الوقوع ضحية للابتزاز الإلكتروني، إليك بعض النصائح العملية:
- تقوية إعدادات الخصوصية: تأكد من ضبط إعدادات الخصوصية على حساباتك الاجتماعية لمنع الوصول غير المصرح به.
- تجنب مشاركة المحتوى الحساس: لا ترسل صورًا أو فيديوهات خاصة عبر الإنترنت، حتى للأشخاص الموثوقين.
- استخدام كلمات مرور قوية: قم بتأمين حساباتك بكلمات مرور معقدة وتفعيل المصادقة الثنائية.
- الإبلاغ الفوري: إذا تعرضت لتهديد، لا تستسلم للضغوط، وأبلغ الجهات المختصة فورًا.
خاتمة: العدالة فوق كل شيء
يُبرز حكم “الجنايات المستأنفة” التزام القضاء المصري بتحقيق العدالة عبر تطبيق ضوابط صارمة في قضايا الابتزاز الإلكتروني. من خلال إلغاء حكم السجن 10 سنوات والقضاء ببراءة المتهم، أكدت المحكمة أن الأدلة الضعيفة أو المشوبة بالشك لا يمكن أن تكون أساسًا للإدانة، خاصة في جرائم تتعلق بالشرف والسمعة. هذا الحكم ليس فقط انتصارًا للمتهم، بل رسالة واضحة بأن القانون يحمي الجميع، سواء كانوا ضحايا أو متهمين، وأن العدالة تظل الهدف الأسمى.
إذا كنت تبحث عن مزيد من المعلومات حول حماية نفسك من الجرائم الإلكترونية، يمكنك زيارة موقع وزارة الداخلية المصرية للحصول على إرشادات رسمية، أو استشارة محامٍ مختص في قضايا التكنولوجيا. شاركنا رأيك في التعليقات، وهل تعتقد أن هذا الحكم سيسهم في تقليل الاتهامات الكيدية؟
ملاحظات إضافية
- لمزيد من المعلومات حول قوانين الجرائم الإلكترونية في مصر، يمكن الرجوع إلى الموقع الرسمي للنيابة العامة.
- للإبلاغ عن جرائم إلكترونية، تواصل مع إدارة مكافحة جرائم الحاسبات عبر الخط الساخن التابع لوزارة الداخلية.